فقد ذهب طائف من العلماء، وهو الذي شرحه وبيَّنه وفصَّله أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى أن قول الله -جل وعلا-: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ </A> معناه: أنه لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين متروكين حتى تأتيهم البينة، يعني أن الله -جل وعلا- لن يترك أهل الكتاب الذين كفروا، ولن يترك المشركين هكذا، بل لا بد أن يرسل إليهم رسولًا يبين لهم آيات الله -جل وعلا- ويدعوهم إلى الإسلام.
وإذا خلقهم لعبادته فلن يتركهم جل وعلا هملًا لا يعرفون شيئًا، بل لا بد أن يرسل إليهم الرسل، ويقيم عليهم الحجة، فالله -جل وعلا- ذكر في هذه الآية أنه لن يترك المشركين، ولا الكافرين من أهل الكتاب حتى تأتيهم البينة.
قال بعض العلماء: "الكتب" هنا جمع كتاب بمعنى حكم؛ لأن مادة "كتب" تأتي بمعنى حكم، كما قال الله جل وعلا: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي </A> وبعض العلماء يقول: إن قوله جل وعلا: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ </A> أي: أن هذا القرآن مشتمل على كتب سابقة من الكتب التي لم تنسخ، ولم تُحَرَّف.
فدل ذلك على أن قوله: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ </A> أي: أن هذا القرآن مشتمل على شيء من الكتب السابقة مما لم يُنْسَخ، أو يُغَيَّر، والقرآن قد وافق تلك الكتب عليها، وهذا معنى ليس ببعيد، وإن كان الأكثرون على الأول.
ولما جاءتهم البينة، وهو نبينا -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا فمنهم من آمن به، ومنهم من أعرض عنه، سواء من اليهود أو من النصارى، أو من المشركين فتفرقوا في هذا النبي مع وضوح البينة، ومع ذلك تفرقوا.
قال بعض العلماء: إن الله -جل وعلا- ذكر هذه الآية إعلامًا لهذه الأمة بألا تتفرق كما تفرق اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا الكتاب، وتفرق المشركون.
فدلت هذه الآية على أنه يجب على المسلمين أن يتفقوا ولا يفترقوا، وألا يختلفوا، وألا يفعلوا ما يوجب الفرقة، ولكن هذا الاتفاق يكون على دين الله وشرعه، وليس على الأهواء، ولا على ما لا يرضي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وإنما يكون الاجتماع على كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولهذا كان السلف الصالح يقولون: "الاجتماع رحمة والفُرْقة والاختلاف شر ونقمة" لكنهم يريدون بهذا الاستمساك بحبل الله المتين الذي بعث به نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وزاد الله -جل وعلا- في هذه الآية أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ </A> البرية بمعنى الخليقة، يعني: أن الكفار هم شر الخلق، فهم أشر من البهائم والدواب؛ لأن هذه البهائم والدواب إذا كان يوم القيامة يجري بينها القصاص، لكن ليس عليها حساب، ولا عذاب، يقتص الله -جل وعلا- لكل واحدة من الأخرى، ثم يقال لها: كوني ترابًا، فتكون ترابًا؛ لأن الله -جل وعلا- لم يخلق فيها عقولًا لتدرك شرعه وحكمه.
والبرية عند أكثر العلماء معناها الخليقة، وبعض العلماء يقول: إن البرية تحتمل أن تكون من البراء، وهو التراب، ويكون على ذلك أولئك هم خير من خلق من تراب، والمخلوق من التراب إما مؤمن وإما كافر، لكن أكثر أهل العلم على أن قوله جل وعلا: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ </A> أي: أولئك هم خير الخليقة.
ومن هذه الآية استنبط بعض العلماء أن صالح البشر أفضل من الملائكة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ </A> يعني: خير الخليقة فدل على أن صالح البشر أفضل من الملائكة، وهذه المسألة قد تكلم فيها العلماء كثيرًا: فمنهم من يرى أن الملائكة أفضل، ومنهم من يرى أن صالح البشر أفضل، مع اتفاق العلماء على أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو أفضل الخلق: من البشر، والملائكة، والجن وغيرهم.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ </A> أي: أن الله -جل وعلا- قد رضي عنهم، وهم قد رضوا عن الله -جل وعلا- لأن الله -جل وعلا- أعطاهم ما وعدهم؛ ولأن الله -جل وعلا- هداهم، ووفقهم للطاعة، ويوم القيامة يرضون ويرضيهم الله جل وعلا. وقد قدمنا أن الله -جل وعلا- لا يرضى إلا عن القوم المؤمنين، وإذا رضي عنهم ربهم -جل وعلا- فإنه جل وعلا يكرمهم وينعمهم.